بين انتظار الفناء وعمارة الأرض- أين نحن من أسرار الكون؟

المؤلف: عبده خال09.22.2025
بين انتظار الفناء وعمارة الأرض- أين نحن من أسرار الكون؟

أحياناً تستهويني العودة إلى الماضي، واستحضار طرق تفكير أو أحداث مضت، فالذكريات عالقة في الأذهان، والأفكار القديمة لا تزال متشبثة بمكانها. تُرى، هل نكرر ونسترجع معارف عفا عليها الزمن، وتجاوزها العلم الحديث، أم أننا لم نرتقِ بمعرفتنا، فظلت عقولنا تدور في فلك الماضي الذي عاش فيه الأجداد، وبقيت تصوراتهم راسخة في حياتنا المعاصرة؟ الإدراك الحقيقي هو فهم ما نعيشه ونتفاعل معه، وأذكر أنني بذلت جهداً كبيراً في الكتابة عن أولئك الذين يترقبون قيام الساعة، ويتنبأون بوقوعها بناءً على علامات ماضوية، متناسين أن يوم القيامة سيأتي فجأة دون سابق إنذار. وفي هذا السياق، كتبت مقالاً بعنوان "غداً تقوم الساعة"، عندما انتشرت شائعات بأن عام 1434 هـ سيكون موعد القيامة بسبب كسوف شمسي مزعوم. لقد انقضى عام 1434، ولم يأتِ معه يوم القيامة، بل شهدنا كسوفاً استثنائياً ابتلعه الظلام قبل أن تشرق الشمس، كسوف لن يشهد مثله أحدنا طوال حياته، إذ لن يتكرر إلا بعد أكثر من خمسمائة عام! فالعام الذي زعموا أنه نهاية العالم رحل عنا وداعاً لا يُنسى.

وكم من الأحداث الطبيعية المذهلة مرت بنا دون أن ننتبه إليها أو نعيرها الاهتمام الذي تستحقه من متابعة وتحليل وفهم لأسبابها وكيفية حدوثها، وما هو التفسير العلمي لظواهرها، وما هي النتائج المترتبة عليها في حياتنا؟ فلنلتفت إلى المسببات العلمية المرتبطة بالتفكر والتدبر في أسرار الكون، بدلاً من انتظار علامات الساعة. فالله وهبنا عقولاً باحثة، لا عقولاً تنتظر فناء العالم. وعلى الجانب الآخر، نجد (تبلدًا) يغرق في الغفلة. أحداث فريدة مرت بنا ونحن منهمكون في اللهو أو التسكع في الأسواق، أو منغمسون في هواتفنا الذكية، أو نتبادل النكات، أو نتواعد للذهاب إلى مطعم يقدم المندي أو المضبي! أو نتجمع للتنديد بتصرفات الشباب التي تظهر في وسائل التواصل. ويا للعجب، ما زال البعض يعارض عمل المرأة وقيادتها للسيارة، ويطالب بعودتها إلى المنزل سريعاً، وما زال البعض يبحث عن معالج روحي لإخراج سحر كامن في جناح بعوضة، أو يدعي أن جنياً تلبس بفلان دون غيره من خلق الله! وهذا أمر طبيعي عندما يكون الفرد أو الجماعة في أدنى مستويات المعرفة، ومن الطبيعي أيضاً أن ندعي أن اهتماماتنا استثنائية، لأننا نرى أنفسنا متميزين عن بقية العالم، متناسين أننا غارقون في مستنقع ضيق، ندور فيه عبثاً دون أن نستطيع الخروج منه ولو للحظة، لكي نريح أجسادنا المنهكة من كثرة الدوران.

لم ننتبه إلى الأحداث الكونية لسبب علمي وجيه، فالمجتمعات التي تمتلك عمقاً معرفياً هي دائماً الأكثر انتباهاً لإشارات الكون ورموزه، لكي تفهم وتقيس وتحلل، وتصل إلى الأسرار الكونية المخبأة. أما عدم الاكتراث أو التنبه فهو سمة المجتمعات غير العلمية أو البدائية التي لا تهتم إلا باللحظة الراهنة، وتتطلع إلى المستقبل من خلال التنجيم أو انتظار قيام الساعة، في إشارة إلى عدم الاهتمام بعمارة الأرض. هذه العقلية تمثل (العقلية الحاملة لذاكرة الفناء)، عقلية من لا يعلم، ومن ليس له بصيرة، حتى وإن ادعى العلم. فجوهر معرفة الله هو التعرف على بدائع خلقه وصنعه، أي التفكر في إشارات الكون وعجائبه. وعلى الرغم من أن الإسلام حث على عمارة الأرض، وقبلها حث على معرفة أسرار الكون والتفكر في خلقه سبحانه وتعالى، إلا أن فكرة الفناء طغت على فكرة عمارة الأرض.

وحين تصبح المجتمعات أسيرة التنجيم أو الإكثار من ذكر الفناء، فإنها تفقد وجودها الأممي الحقيقي، لأنها تنتحر واقعياً ومعرفياً.

أعتقد أن أمتنا تلقت النصائح المتتالية للاهتمام والتنبه منذ زمن بعيد، ومنذ أن تناقل الناس نصيحة أبي الطيب المتنبي:

على قدر أهل العزم تأتي العزائم * وتأتي على قدر الكرام المكارم

وتعظم في عين الصغير صغارها * وتصغر في عين العظيم العظائم

والواقع يثبت أننا نعاني من الصمم والعمى...

وأخشى أن يتحول هذا العمى والصمم إلى عاهتين مزمنتين، فالزمن يتقدم بمعارفه إلى الأمام، ونحن ما زلنا نراوح مكاننا في الماضي، ننتظر الفناء دون أن نتحرك لاستكشاف ما الذي قدمه لنا القرآن من أسرار كونية تنير العقل المنغلق.

ربما أكتب لأبناء جيلي الذين لا يزالون يتمسكون بأفكار بالية تجاوزها العلم، وأخشى أن يورثوا هذه الأفكار للجيل القادم. حقاً، مشكلتنا أننا نورث ما لا يورث.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة